فصل: تفسير الآيات (26- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (26- 28):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [26- 28].
{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} أي: عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني بني قريظة، وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد: {مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي: الخوف، جزاءً وفاقاً.
قال ابن كثير: لأنهم كانوا مالَئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلم- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، ولهذا قال تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.
روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ. فأمر بي النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبتُّ بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتُّ، فخلى عني، وألحقني بالسبي. وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي: حسن صحيح.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} حصونهم: {وَأَمْوَالَهُمْ} أي: نقودهم وأثاثهم ومواشيهم: {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} أي: أرضاً لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم. وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مراداً. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يالله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسداً منهم وبغياً. فتم عليهم ما تم، سنة الله في المفسدين، فإن الله لا يصلح أعمالهم: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: السعة والتنعم فيها: {وَزِينَتَهَا} أي: زخارفها: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي: أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة: ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار، من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعاً لا وجوباً. وقوله تعالى: {سَرَاحاً جَمِيلاً} أي: طلاقاً من غير ضرار ولا بدعة. وقد روي أنهن سألن النبي صلّى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية. ولما نزلت، بدأ صلّى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وكانت أحبهن إليه، فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسول والدار الآخرة، ثم اختار جميعهن اختيارها، قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة رضي الله عنهن، ثم صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.
لطيفة:
قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: «الصلاة وما ملكت أيمانكم». ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]، ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.

.تفسير الآيات (29- 30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [29- 30].
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: تردن رسوله. قال أبو السعود: وذكر الله عز وجل، للإيذان بجلالة محله عليه السلام، عنده تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} أي: لا يقدر قدره. ولما خيرهن النبي صلّى الله عليه وسلم، واخترن الله ورسوله، أدبهن الله وهددهن، للتوقي عما يسوء النبي صلّى الله عليه وسلم، ويقبح بهن من الفاحشة، وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أي: بين الشرع والعقل قبحها، إن قرئ بالفتح. أو مبيّنة قبحها بنفسها من غير تأمل، إن قرئ بالكسر: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي: ضعفي عذاب غيرهن. قال القاضي: لأن الذنب منهن أقبح، فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك جعل حدّ الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} لعموم قدرته.

.تفسير الآيات (31- 33):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [31- 33].
{وَمَن يَقْنُتْ} أي: يدم مطيعاً: {مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: في إتيان الواجبات، وترك المحرمات والمكروهات: {وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي: مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} أي: زيادة على أجرها المضاعف في الجنة، أو فيها، وفي الدنيا: {رِزْقاً كَرِيماً} أي: حسناً مرضياً: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي: عند مخاطبة الناس، أي: فلا تُجبن بقولكن ليناً خنثاً، مثل كلام المريبات والمومسات: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: ريبة وفجور: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي: بعيداً من طمع المريب بجدّ وخشونة، من غير تخنيث، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي: اسكن ولا تخرجن منها. من وقر يقر وقاراً، إذا سكن. أو من قرّ يقرّ من باب ضرب، حذفت الأولى من رائي اقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح، من قررت أقر، من باب علم. وهي لغة قليلة: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} أي: تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى؛ إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم، والتبرج، فسر بالتبختر والتكسر في المشي، وبإظهار الزينة وما يُستدعى به شهوة الرجل، وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها، وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط، وكل ذلك مما يشمله النهي؛ لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة.
فائدة:
قيل: {الْأُولَى} بمعنى القديمة مطلقاً من غير تقييد بزمن. فيستدل بذلك لمن قال: إن الأول لا يستلزم ثانياً. قال في الإكليل: وهو الأصح عند العلماء. فلو قال: أول ولد تلدينه فأنت طالق، لم يحتج إلى أن تلد ثانياً. انتهى.
وقال الزمخشري: الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، أو ما قبله، إلى زمن عيسى. والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، ويعضده ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذر، لما عير رجلاً بأمه وكانت أعجمية: «إنك امرؤ فيك جاهلية».
والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام، تشبه جاهلية الكفر قبله: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: بموافقة أمرهما ونهيهما. ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} أي: ما أمركن ونهاكن، ووعظكن، إلا خيفة مقارفة المآثم، والحرص على التصوّن عنها بالتقوى. فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف.
قال الزمخشري: استعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر؛ لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. و{أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على النداء، أو على المدح. والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: وهذا نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وأما قول عِكْرِمَة، إنها نزلت في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، ومن شاء باهلته في ذلك، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح. وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، وأنه صلّى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم جللهم بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس».
وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه، إلا أن الشيخين لم يصححاه، ولذا لم يخرجاه، وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سَبْرة، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي- قالها ثلاثاً-». فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس- رضي الله عنهم- فإنما مراد زيد، آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله. قال ابن كثير: وهذا احتمال أرجح، جمعاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة، إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظراً. انتهى.
وقال أبو السعود: وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيرة، على كون نساء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم، وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء، وتلاوته صلّى الله عليه وسلم الآية بعده، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك، ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها، لكونها في مقابلة النص. انتهى.
بقي أن الشيعة، تمسكوا بالآية أيضاً على عصمة علي رضي الله عنه، وإمامته دون غيره. قال ابن المطهر الحلي منهم: وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ: {إِنَّمَاْ} وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وغيرهم ليس بمعصوم الخ. وأجاب ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة بقوله: ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين:
أحدهما- أن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 26- 27]، فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدره، ولا أنه يكون لا محالة، والدليل على ذلك، أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء.
وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في كونه تعالى مريداً لذلك، ما يدل على وقوعه.
وهذا الرافضي وأمثاله قدرية، فكيف يحتجون بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} على وقوع المراد؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض. فلم يقع مراده. وأما على قول أهل الإثبات، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه. وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره. الأولى مثل هؤلاء الآيات. والثانية مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقول نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].
وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعاً واحداً، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئاً واحداً، ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع، فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد، فلا يلزم أن يكون كائناً، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم، وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب، وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر، وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه.
ومما يبيّن ذلك أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه. قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب: 30]، إلى قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فالخطاب كله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، ومعهن الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعممّ غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصاً بأزواجه. بل هو متناول لأهل البيت كلهم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من غيرهم بذلك، ولذلك خصهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، وهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، نزلت بسبب مسجد قباء، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «هو مسجدي هذا». وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشياً وراكباً، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه، ولهذا خصهم بالدعاء. وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟ فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد، ومالك، وغيرهم. وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا «آل محمد كل مؤمن تقي» رواه الخلال، وتمام في الفوائد له. وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، وهو حديث موضوع، وبنى على ذلك طائفة من الصوفية، أن آل محمد هم خواص الأولياء، كما ذكر الحكيم الترمذي.
والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم. لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. أحدهما- أنهن لسن من أهل البيت. ويروى هذا عن زيد بن أرقم. والثاني- وهو الصحيح أن أزواجه من آله. فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه: «اللهم صل على محمد وأزوجه وذريته». ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته، بدلالة القرآن. فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى، وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح أنه قال: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين». فبين أن أولياءه صالح المؤمنين، وكذلك في حديث آخر: «إن أوليائي المتقون، حيث كانوا وأين كانوا». وقد قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4]، وفي الصحاح عنه أنه قال: «وددت أني رأيت إخواني». قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: «بل أنتم أصحابي، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني». وإذا كان كذلك، فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى، وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية. والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان. ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. فإن كان فاضل منهم، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب.
فأولياؤه أعظم درجة من آله، وإن صلى على آله تبعاً، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم، فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه. وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن.
فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه، فإن دعاءه مستجاب. قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس، فضلاً عن أن يدل على العصمة والإمامة. وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر.
ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دل على طهارتهم، وعلى ذهاب رجسهم، كما أن الدعاء المستجاب لابد أن يستحق معه طهارة المدعوِّ لهم، وإذهاب الرجس عنهم. لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ، والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ، فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث، كالفواحش ويطهرهم تطهيراً من الفواحش وغيرها من الذنوب.
والتطهير من الذنب على وجهين، كما في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، وقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] و[النمل: 56]، فإنه قال فيها: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] والتطهر من الذنوب إما بأن لايفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة، فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال. لكن هو سبحانه ينهى عنها، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها. وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم! باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب. واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس». وبالجملة، لفظ الرجس، أصله القذر. ويراد به الشرك. كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، ويراد به الخبائث المحرمة، كالمطعومات والمشروبات كقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} [الأنعام: 145]، وقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، وإذهاب ذلك إذهاب لكله، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث. ولفظ الرجس عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس. فإن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا بذلك. وأما قوله: {وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيْراً} فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة.
وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة. ويقول مثل ذلك في قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ونحو ذلك. والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق، كما إذا قيل: أكرم هذا، أي: افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراماً، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتباراً، والْإِنْسَاْن لا يسمى معتبراً إذا اعتبر في قصة، وترك ذلك في نظيرها. وكذلك لا يقال: هو طاهر، أو متطهر، أو مطهر، إذا كان متطهراً من شيء، متنجساً بنظيره. ولفظ الطاهر كلفظ الطيب، قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]، كما قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]، وقد روي أنه قال لعمار: «ائذنوا له. مرحبا بالطيب المطيب». وهذا أيضاً كلفظ المتقي والمزكي، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10]، وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا- لو كان كذلك- لم يكن في الأمة متّق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين. كما قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31]، فدعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيراً، كدعائه بأن يزكيهم ويطييهم ويجعلهم متقين، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك، فهو داخل في هذا، لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه، وقد قال: «اللهم! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد». فمن وقع ذنبه مغفوراً أو مكفراً، فقط طهره الله منه تطهيراً، ولكن من مات متوسخاً بذنوبه، فإنه لم يطهر منها في حياته. وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس. والنبي صلّى الله عليه وسلم، إذا دعا بدعاء، أجابه الله بحسب استعداد المحل. فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب، فإن هذا، لو كان واقعاً، لما عُذب مؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة. بل يغفر الله لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسنات الماحية، ويغفر الله لهذا ذنوباً كثيرة، وإن واحدة بأخرى، وبالجملة، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم، ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم، لا معصوم إلا النبي صلّى الله عليه وسلم. والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبي صلّى الله عليه وسلم والإمام.
فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة، متضمناً للعصمة التي يختص بها النبي صلّى الله عليه وسلم، والإمام عندهم. فلا يكون دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم له بهذا العصمة، لا لعلي ولا لغيره. فإنه دعا لأربعة مشتركين، لم يختص بعضهم بدعوة، وأيضاً فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية. بل وبالتطهير أيضاً، فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب، ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعاً ولا عاصياً، ولا متطهراً من الذنوب ولا غير متطهر. فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلاً للواجبات تاركاً للمحرمات، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر. كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل باختياره، إما الخير أو الشر بتلك القدرة. وهذا الأصل يبطل حجتهم، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل، حيث دعا النبي صلّى الله عليه وسلم بالتطهير.
فإن قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة. فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة. والعصمة مطلقاً التي هي فعل المأمور وترك المحظور، ليست مقدورة عندهم لله، ولا يمكنه أن يجعل أحداً فاعلاً لطاعة، ولا تاركاً لمعصية، لا لنبي ولا لغيره، ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه، لا بإعانة الله وهدايته، وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة. كما تقدم. ولو قدر ثبوت العصمة، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم. وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق. انتهى.